درجت في الآونة الأخيرة نزعة علموية تستهدف إيجاد تفسيرات للمشاعر الأكثر تعالياً على الفهم العقلاني، كالحب أو الرغبة الجنسية أو الألم أو التعاطف وغيرها، وردها إلى مجرد اضطرابات هرمونية أو ارتفاعات في ضغط الدم أو غيرها، الأمر الذي يجعل من الممكن نظرياً السيطرة عليها والتحكم بها. لكن مقالاً جديداً للباحث في علوم الأعصاب إيف أجيد عن الحب يفعل العكس، حين يؤكد “علمياً” استحالة تفسير الحب بطريقة علمية محضة!
ولكن ما الذي يحصل تماماً في الدماغ مثلاً حين “نقع” في الحب؟
يعتقد أجيد، وهو المدير العلمي لمعهد الدماغ والحبل الشوكي الفرنسي، أننا حين نرى شخصاً نملك قدراً من الانجذاب المفاجئ نحوه أو نحبه كثيراً، يتم نقل هذه المعلومات عبر التصورات البصرية أو الصوتية أو الحسيّة إلى دوائر محددة في الدماغ مسؤولة عن العواطف.
المثير للاهتمام، حسب الباحث، هو أننا لا نقول لأنفسنا “هذا الشخص لديه سترة جميلة، وأنا أحب وجهه”. نحن لا نقرر شيئاً عملياً والتحليل العقلاني لا علاقة له بردود أفعالنا. يبيّن تخطيط الدماغ أن كتلة صغيرة من الجيلاتين، هي القشرة المخية، تدير السلوكيات غير التلقائية لدينا. ولكن هناك أيضاً، وهو أهم، السلوكيات التلقائية مثل المشي وركوب الدراجة وقيادة السيارة، التي نقوم بها دون تفكير والتي تدار أساساً من قبل هياكل صغيرة جداً في قاعدة الدماغ.
المدهش هو أن شعور الحب يدار على ما يبدو من قبل هياكل صغيرة جداً وقديمة جداً، ورغم أننا قد نفكر أن القشرة الدماغية، باعتبارها ميدان الأنشطة الذهنية الخفية والسلوكيات غير التلقائية كالوعي لدى البشر، هي المسؤولة عن الشعور العاطفي. لكن الواقع مختلف تماماً. إن الوقوع في الحب من اختصاص اللاوعي، أي من قبل النشاط الدماغي الذي يسمح لنا عادةً بالعمل والتفكير والشعور اللاوعي أو “التلقائي”.
ويضرب أجيد مثال الحمام، فقد لاحظ مع زملائه أن هذه الطيور تقبل بعضها بعضاً مثل البشر رغم أنها لا تملك عملياً قشرة دماغية، بل نويات رمادية مركزية متقدمة للغاية. كل شيء يحدث للحمام يحدث للبشر: “نقع” في الحب بطريقة عنيفة وبشكل غير متوقع، تلقائياً، بشكل لاواع… ربما بمساهمة من الهياكل الأكثر بدائية من الدماغ. وأياً كان نوع الحب الذي نخوض غماره، فإن الأكيد فلسفياً وعلمياً على ما يظهر أننا لا نختار فعلاً أن نحب، على طريقة مواقع التعارف والزواج.
ورغم أن أجيد يحذر من مخاطرة الخلوص إلى استنتاجات متسرعة في هذا الميدان شديد الحساسية والذي لا تزال أكثر مناطقه غامضة، إلا أنه يوفر عدة براهين تجريبية على دور العقد القاعدية الدماغية في مشاعر الحب. فقد قام الباحثان أندرياس بارتلز وسمير زكي في بريطانيا بتجارب على عدة عشاق وطلبوا من أحد الشريكين إجراء رنين مغناطيسي. وعكف الباحثان على ملاحظة ما يحدث في دماغه عندما يرى سلسلة من الصور بينها واحد من حين لآخر لحبيبه. وانتبه الباحثان إلى أن الجزء الدماغي الذي يعمل في تلك اللحظة هو النواة الرمادية المركزية، تماماً كما لدى الحمام! وهكذا، فإن “هبوط” الحب علينا يكون غالباً ذا وقع عنيف، غير مفكر فيه، تلقائياً وغير القابل للتحكم به.
أفلح المترجمون العرب حين اعتمدوا “الوقوع في الحب” كترجمة حرفية لعبارة Fall in love الإنكليزية أو Tomber amoureux الفرنسية، فالحب ليس إحساساً واعياً أو مخططاً له أو محسوباً. إنه كـ”الوقوع” أولاً لأنه خارج عن الأفعال المقصودة وقد يكون حتى “غير مرغوب” فيه. وهو كـ”الوقوع” ثانياً لأنه يتضمن مخاطرةً ويكتنف ألماً. لا يكون الحب حباً إن لم يكن حدثاً بالصدفة لا يؤمّن أي حد أدنى من ضمان السلامة، بل ينتج اضطراباً كيانياً عارماً فوق ذلك. تلك هي نظرية الفيلسوفين آلان باديو وبيونغ شول هان، كلٌّ على حدة ومع بعضهما، في دفاعهما عن “الوقوع” في الحب ضد محاولات تسليعه وتشييئه.