بالنسبة للكثيرين من المسيحيين، لبنان فكرة جميلة مبنية على تاريخ رسم «بنوستالجيا» عن عصور ذهبية مرت منذ الإستقلال وحتى الحرب الأهلية عام 1975.
لكن واقع الأمور والتغيرات التي لن تنمحي حسمت في الكثير بالنسبة لهذه الصورة الجميلة ومستقبل لبنان، ولو ظلّ البعض يتطلع الى الخلف الزائل بدل المستقبل الممكن.
«لبنان رسالة» هو أكثر من وطن أو دولة. «جسر العبور» ما بين الشرق والغرب. «سويسرا الشرق». كل هذه أقوال من زمن غابر، لن يعود. التغيّر الديمغرافي في لبنان منذ 1975 حصر التنوع الإجتماعي والديني والطائفي بنسب كبيرة. فالصورة العامة هي أن المسيحيين في لبنان يقدّرون بثلث البلد ونسبهم أقلّ بكثير في ملاك الدولة. الحرب فرزت السكان، فخفّت نسبة الإختلاط بشكل هائل. معظم القرى في الشوف وعاليه حيث قضت «حرب الجبل» على التنوع، أو الضاحية الجنوبية حيث التشدد الديني والأمني مسح أي تنوع غير احتفالات شكلية بمناسبات دينية. التنوع في لبنان الذي كان يشكل الحاضنة الإجتماعية للتعددية السياسية، وللديمقراطية اللبنانية، وللوجود الفاعل للأقليات الدينية والعرقية في لبنان، لم يعد موجوداً بشكل ذلك ينعكس على الحياة السياسية.
واقع الحال السياسي اليوم هو سيطرة كبيرة للقوى السياسية الطائفية السنية والشيعية، هي التي لها أفضلية الديمغرافيا، كما أن لهذه القوى دعماً إقليمياً وامتداد شبكات علاقات سياسية تؤمن لها الغطاء لتحصين مصالحها وانتمائها الديني ولتحقيق مكاسب في الدولة اللبنانية الهشة. أما القوى المسيحية فلا دور تلعبه إلا بتحالفها مع إحدى القوتين الأساسيتين في الدولة. (وهذه التحالفات خلقت بدورها تقاتل وتناحر وعدوات بين الأحزاب المسيحية حباً «بالأنا» والتسلط وتعبئة الجيوب). إن قررت الوقوف وحدها ومتنازعة لتواجه الإصطفاف السني أو الشيعي ستخسر معركة تلو الأخرى. وتكسب فقط عندما تكون بيضة القبان عند المواجهة ما بين القوى السنية والشيعية. لكن في أي لحظة يتفق السنة والشيعة (كما حصل في الحرب الأهلية) على أجندة سياسية أو غيرها فلا يمكن للقوى المسيحية من الوقوف بوجه ذلك الإتفاق.
الشلل التام الذي ضرب الدولة اللبنانية منذ العام 2005 الى يومنا هو أبرز دليل على انتهاء صلاحية «اتفاق الطائف» كما تمّ ويتمّ تطبيقه ناقصاً ومبتوراً منذ العام 1990. كانت الأزمة الرئاسية كمحطة – مفترق حاولت فيه القوى المسيحية تعزيز دورها في النظام السياسي من خلال فرض رئيس قوي تمثيلياً؛ وقد جوبهت هذه المحاولة بعناد إسلامي (ظاهري وباطني) راغب بالمحافظة على امتيازاته التي حصل عليها إبّان الحقبة السورية. لا خير هنا من ذكر كيف حاول المسيحيون تعديل القانون الإنتخابي بما يزيد حصتهم التمثيلية في البرلمان، والذي تجسّد «بالطرح الأرثوذكسي»، الأمر الذي رفضه علناً «تيار المستقبل» وضمنياً حركة أمل وحزب الله تحت مبرّرات كذبة «العيش المشترك».
واقع الحال الحقيقي يقول: «كل الزعماء المسلمين يرفضون السماح للمسيحيين بإعادة لعب دورهم في السلطة والدولة. فإذا لم يتمّ اعتماد قوانين وتعديلات وآليات تعيد للمسيحيين دورهم وتعطيهم المناصفة الحقة فإنّهم سوف يذهبون الى خيارات أخرى مصيرية ووجودية للكيان اللبناني». المسيحيون اليوم موجودون أمام خيارات «تبدأ بالفدرالية ولا تنتهي بالتقسيم».
هذا البديل الوحيد ناتج عن عدم قبول المسلمين في لبنان بمبدأ المناصفة الفعلية – المتمثلة بقانون انتخاب عادل وجديدو تعديل صلاحيات رئيس الجمهورية وبناء الدولة – والإسيكون إما «الفدرلة» وإما «الكنتنة». ليكن معلوماً أنّ النخب الفكرية والسياسية المسيحية المؤمنة بالتعددية والديمقراطية والحرية أعادت الى جدول أعمالها فكرة «الفدرالية» كمشروع نظام سياسي بديل عن نظام «الطائف» المشلول كلياً. خاصة وأنهم يجدون أنفسهم في جو إقليي شديد الخطورة تتفكك فيه الدول في العزاق وسوريا وليبيا واليمن وتتعرض فيه الأقليات والأكثريات على أنواعها الى اضطهادات مرعبة على يد الجماعات الإسلامية المتطرفة والتكفيرية. قال أحدهم (النخبة) في اللجنة السياسية المنبثقة عن مؤتمر البحوث اللبنانية – الكلسيك: «العلمانية هي النظام الأمثل للبنان، غير أنّ عدم استعداد المسلمين اللبنانيين لهذا الخيار، وتعنت التيارات الإسلامية السياسية برفض مبدأ المناصفة الفعلية بين المسلمين والمسيحيين في النظام سيدفعان بالمسيحيين للمطالبة باللامركزية الموسعة وصولاً الى الفدرالية».
«خارطة طريق» الأحزاب المسيحية واضحة (هذا إذا فاقت من كوما الأنا وظاهرة الأحجام والمعايير)، عليها: المطالبة والعمل على تحقيق اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة ونقل قسم كبير من صلاحيات الإدارة المركزية ولا سيما الإنمائية منها الى سلطات لامركزية منتخبة وتأمين الإيرادات الذاتية اللازمة لذلك، وأيضاً عليها (أي الأحزاب المسيحية) الخروح (كما فعلت صيف العام 2015) بخلاصة موحدة مفادها أن الفدرالية أو النظام الإتحادي هو مطلبهم الضمني وجعله برنامج عمل سياسي ونضالي، وكأنهم بهذا المطلب يريدون إعادة النظر من جديد بشكل وحدود وطبيعة نظام الكيان الذي ولد في الأول من أيلول 1920، وربما الكيان بذاته والسلام عليكم….!!
والى جميع القراء الأحباء ميلاد مجيد وسنة مباركة.
مراجع: – “مفكرة عن نحبة في جامعة الروح القدس الكسليك”.
– أنطوان نجم: “لبنان دولة اتحادية والفدرالية المنفتحة”.
– علي الوردي: “مهزلة العقل البشري”