يبدو بحسب المؤشرات الاقتصادية والمالية بأن لبنان دخل في مرحلة من الركود الاقتصادي وأصبح، بحسب آراء الكثير من الخبراء الماليين، على عتبة الانهيار المالي العام خاصة بعد تراجع تصنيفه السيادي من قبل وكالة التصنيف الائتماني الأمركية العالمية “موديز” منذ شهرين تقريباً ومن قبل شركة “ستادرد أند بورز” مؤخراً. إن هذه المؤشرات السلبية أتت نتيجة طبيعية للسياسات الاقتصادية والمالية الخاطئة التي اتبعتها الحكومات اللبنانية منذ ما بعد اتفاق الطائف وكمحصلة أيضا لإنتشار الفساد والرشوة لدى أغلبية السياسيين اللبنانيين وفي الإدارة العامة. بالواقع، طيلة ال 25 سنة الماضية، وفي ظل الصراعات السياسية والطائفية التي عرفها لبنان والتي أدت إلى الاتفاق على إدارة شؤون البلد بين الأفرقاء المتصارعين سياسياً وطائفياً على طريقة ما يعرف في لبنان بالديقراطية التوافقية وهو ما تم ترجمته على أرض الواقع بتقاسم المصالح وسياسة “مرقلي تمرقلك”، لم تهتم الحكومات المتعاقبة بوضع خطط إصلاحية اقتصادية هادفة محفِّزة للقطاعات المنتجة كالزراعة والصناعة والتي تشكل المشغّل الأكبر لليد العاملة في لبنان وكانت السياسات الاقتصادية موجهة، بشكل مريب، نحو الاقتصاد الريعي الذي يعتمد على مصدر واحد للدخل مع التركيز على اقتصاد الخدمات المالية والعقارية والسياحة.
من المعروف أن هذا النوع من الاقتصاد معرض للمخاطر بشكل كبير نظراً لعدم القدرة، لدى الكثير من الدول، على تأمين استدامة النمو لأن ذلك يخضع للكثير من الشروط والعناصر التي يصعب توفيرها أو التحكم بها دائما كالأزمات الجيو-سياسية والحروب والكوارث الطبيعية… فتعمل الحكومات على وضع خطط اقتصادية متوسطة وطويلة الأجل تقوم على استثمار الأرباح المحققة من الاقتصاد الريعي في القطاعات الإنتاجية المستدامة كالزراعة والصناعة التي تؤمن تشغيل الكم الأكبر من اليد العاملة المتنوعة الخبرات مما يشكل ضمانة أقتصادية حقيقة في حال تعثر قطاعات الاقتصاد الريعي.
في لبنان، غابت الخطط الاقتصادية الهادفة وأُهملت القطاعات الإنتاجية حيث كانت حصص وزارتي الزراعة والصناعة لا تتعدى 1% من موازنة الدولة العامة منذ 1993 حتى سنة 2018. كما ولم تقم المصارف، التي كانت الشريك الأول مع الحكومات اللبنانية المتعاقبة في هذه السياسة الاقتصادية السيئة وبالرغم مما حققته من أرباح طائلة ناجمة عن الفوائد المرتفعة وعن الهندسات المالية الغير ناجعة للاقتصاد الوطني، بأي جهد حقيقي لتشجيع الاستثمارات في القطاعات المنتجة. فخلال الفترة السابقة، كان من الصعب جدا على المستثمرين في القطاع الزراعي، النباتي والحيواني وعلى الصناعيين الحصول على قروض ميسرة لاستثمارها في هذه القطاعات وبالتالي المساهمة، بشكل فعّال، بتحفيز الاقتصاد القومي وبتخفيض العجز الكبير الحاصل في الميزان التجاري.
في الوقت الراهن، يبدو ومن خلال نظرة موضوعية بأن انقاذ الاقتصاد اللبناني من الانهيار هو مهمة شبه مستحيلة. بالواقع تتسارع التصريحات من قبل الخبراء الاقتصاديين في الداخل والخارج في طليعتهم مسؤولي صندوق النقد الدولي والمؤسسات الائتمانية التي تقول بأنه مع استمرار غياب خطة اقتصادية هادفة مبنية على إصلاحات بنوية تعمل على تفعيل دور القطاعات الإنتاجية والمشغلة لليد العاملة الوطنية وعلى محاربة حقيقية وشفافة للفساد المستشري، فإن لبنان مهدد بالأفلاس وبإنهيار مالي واقتصادي غير مسبوق كون هذا الأفلاس لن يصيب الدولة فقط بل سيضرب معها مصرف لبنان، المصارف والمودعين كونهم مجموعين يحملون أكثر من 80% من الدين العام للدولة اللبنانية الذي بلغ حوالي 90 مليار دولار هذه السنة أي ما نسبته 150% من حجم الناتج المحلي دون الحديث عن الديون الغير معلنة كمستحقات الضمان الاجتماعي والمستشفيات وصناديق التقاعد العائدة لموظفي القطاع العام التي بكل بساطة لم تعد موجودة.
أمام هذه التحديات الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي يواجهها الشعب اللبناني الذي لم يعد خافياً عليه بأن الطبقة السياسة الحالية هي عاجزة عن مواجهة الأزمة وعن حماية لبنان من الإنهيار، كان لا بد لهذا الشعب بأن يصرخ بوجه الفاسدين من السياسيين ويطالب بوقف الهدر والفساد وبإدارة شفافة تنهض بالواقع الاقتصادي اللبناني وتعيد الأمل بالعيش بكرامة لشعب أضناه فساد مسؤوليه وسوء تدبيرهم.
السؤال المطروح الآن هو ما السبيل للخروج من هذه الأزمة المالية الخطيرة وما هي المقاربات الواقعية لمواجهتها؟ وما هي الأمكانات التي إذا ما استغلت بشكل صحيح قد تسمح بإيجاد حلول على المدى القصير والمتوسط لأزمة المالية العامة في لبنان وتضمن الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للبنانيين الذين هم في صدد أن يخسروا كل شيء إذا ما حصل الإنهيار؟
الكثير من اللبنانيين يراهنون على المساعدات الخارجية وعلى الدول المانحة وعلى ما قد يقدمه مؤتمر سيدر. ولكن أصبح من المعروف بأن مهما بلغت قيمة هذه القروض والتقديمات فإنها لن تُخرج لبنان من الأزمة وخاصة أن المديونية العامة تتفاقم بوتيرة كبيرة تتخطى بمرات أمكانيات أي تتطور إيجابي في الناتج المحلي في ظل الصراعات والمتغيرات الجيو-سياسية التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط. كما أن استعادة الأموال المنهوبة دونها صعوبات جمّة وتتطلب إجراءات قد تستمر سنوات طويلة. من هنا لا يبقى أمام لبنان إلا استثمار الموارد التي يملكها والتي، بدون أدنى شك، تشكل علامة فارقة في مواجهة هذه الأزمة.
طبعاً نسمع الكثير عن استخراج النفط والغاز وعن الإمكانات المالية التي قد يوفرها هذا القطاع ولكن وفي حال سارت الأمور دون أي عقبات، لن يستطيع لبنان الحصول على أي مردود مالي من قطاع النفط والغاز قبل عشر سنوات من الآن وهذا رأي الكثير من الخبراء الذين يعملون في هذا المجال.
إحدى الموارد الطبيعية والمتاحة والتي إذا ما أستغلت بطريقة صحيحة قد تعيد تصحيح وضع لبنان المالي بشكل سريع هي زراعة القنب الهندي أي ما يعرف بحشيشة الكيف. هذه النبتة التي تنمو بشكل ممتاز في سهول وهضاب منطقة بعلبك-الهرمل التي تتمتع بمزايا بيئية وطبيعية من تربة ومناخ وبخبرات بشرية تجعل من القنب اللبناني أحد أهم الموارد الحقيقية لمواجهة الأزمة.
إن استهلاك القنب من أجل الترفيه أو لأغراض طبية أصبح مشرعاً في الكثير من الدول حول العالم وهذا يجعل من هذه النبتة أمكانية جيدة ومورداً مالياً مؤكداً للبنان لما يتمتع به القنب اللبناني من شهرة حيث أن الراتنج المستخرج منه يأتي في المرتبة الأولى عالمياً من حيث الجودة. لذلك نحن نقترح بأن يتم استغلال هذا المورد بطريقة صحيحة وشفافة من أجل تأمين موارد مالية أساسية تتيح للبنان بالنهوض من أزمته المالية والاقتصادية خلال فترة قصيرة. والفكرة الأساس في اقتراحنا هي أن يتم تشريع زراعة القنب اللبناني وأن تُنشأ مؤسسة رسمية تكون بإدارة مختصين وآكادميين وشخصيات من المجتمع المدني المعروفين بالنزاهة والكفاءة وتكون مسؤوليتها أعطاء الرخص بزراعة القنب للمزراعين الذين يستثمرون أرضهم بشكل شخصي وفي مناطق زراعة القنب التقليدية وتحديد المساحة المزروعة وكمية الإنتاج المطلوبة وأن يتم شراء المحصول بسعر تشجيعي للمزارعين ومعالجته من قبل المؤسسة ليتم تصنيع عدة منتجات متعددة الاستخدامات كالتالي:
1- تصنيع 2 مليار سيجارة من مزيج الراتنج والماريجوانا توضب في علب تسع 5 سجائر كل منها وتباع للخارج بسعر يتراوح بين 10 و 15 دولار للعلبة الواحدة؛
2- استخراج زيت القنب من باقي النبات لما يحتويه من نسبة عالية جداً من المواد الفعّالة التي تستعمل في تصنيع المواد الطبية وبيعه من الشركات والمختبرات التي تعمل في مجال صناعة الأدوية.
من خلال هذا الطرح يمكن تأمين أكثر من 5 مليار دولار سنوياً تستثمر في مجملها في السنوات الأولى في القطاعات المنتجة كالزراعة والصناعة وبعض التكنولوجيا حيث الخبرات البشرية اللبنانية متوافرة وبهذه الطريقة نستطيع أحداث نقلة نوعية في الاقتصاد الريفي والقومي حيث تلعب القطاعات المنتجة دوراً أساسياً في الدورة الاقتصادية. كما ويسمح هذا المشروع بتأمين سيولة من العملات الأجنبية التي يحتاجها لبنان ويؤمن الاستقرار المالي والاقتصادي والاجتماعي المهدد حالياً ويساعد الدولة اللبنانية على تخطي الأزمة المالية بسرعة بانتظار الوصول إلى مرحلة استثمار النفط والغاز.
للوهلة الأولى قد يبدو هذا الطرح غير واقعي والبعض قد يعتبره تخطي لكل حدود الموروث الاجتماعي والتقليد ولكن لا يمكن بأن نجد حلول للأزمات المستعصية بمقاربات تقليدية. من موقعنا كآكاديمي وباحث في مجال مكافحة زراعة المخدرات حيث كنا من الأوائل الذين اقترحوا حلول حقيقية لمكافحة زراعة المخدرات في لبنان وقمنا بإدخال زراعات جديدة كزراعة الزعفران والجوجوبا وغيرها وعملنا لسنوات طويلة على نشر الوعي بما يختص بالزراعات الممنوعة، إلا أن الظروف اليوم قد تغيرت والكثير من الدول تتسابق لتشريع استهلاك القنب للترفيه أو لأغراض طبية. فعلينا التمتع بالشجاعة والواقعية واعتماد مقاربة جديدة تؤمن المصالح العليا للبنان وتسمح له بالخروج من الأزمة الوجودية التي يعيشها اليوم. يمكن طرح الكثير من الأسئلة حول كيفية إدارة هذا المشرع لكي يمنع التهريب وأنشاء سوق متواز للسوق الشرعي والجواب هو بشراء المحصول بالسعر المناسب من المزارعين. وللخائفين من إنتشار استهلاك الحشيش في لبنان نقول ونحن أصحاب اختصاص بأن حكم الأعدام لم يمنع المجرمين من ارتكاب جرائمهم. لا بد من أيجاد أجوبة واقعية على كل التساؤلات ولكن منع لبنان من السقوط إلى الهاوية يستحق أن نفكر جدياً بهذا الطرح والطريقة الأفضل لاستثمار هذا المورد الطبيعي الذي، في الظروف الحالية، لا يوجد له منافس في أنقاذ لبنان من الانهيار.